لماذا يمكن للموسيقى أن تحل أعمق أسرار الكون
معادلات العلم وتناغمات الموسيقى بينها ارتباط وثيق ويمكن أن تساعدنا على فهم الإيقاعات الكونية
في السيمفونية الواسعة للتعبير الإنساني، قلما نجد تخصصات تأسر العقل وتناجي الروح مثل الموسيقى والفيزياء. إضافةً إلى ذلك، فإن هذين المسارين المتباينين في الظاهر يشاركان فيما بينهما رابطاً خفياً هو التناغم غير المرئي الذي يتردد صداه على مر الدهر.
حتى ألبرت أينشتاين Albert Einstein العظيم الذي أعادت أفكاره صياغة فهمنا للكون قال في أحد اقتباساته الشهيرة إنه لو أن مساره أخذه بعيداً عن الفيزياء، لوجد العزاء في عزف الموسيقى.
أكد هذا الشعور منذ فترة طويلة أن الموسيقى والفيزياء ليستا مجرد موضوعين للدراسة بل هما جانبان متشابكان للإبداع البشري. وبصفتي عالماً وموسيقياً، شعرت على الدوام بأنني محظوظ وممتن لنَيلي فرصة التنقُّل بين كلا التخصصين، واكتشاف الروابط العميقة غير الظاهرة بينهما.
بدأت رحلتي الشخصية في هذا العالم المتشابك في شوارع حي برونكس؛ البوتقة الثقافية التي تلتقي فيها إيقاعات الهيب هوب مع سحر العلم بطرق غير متوقعة. كان ذلك في العام 1988، وفي خضم الطاقة الصاخبة في برونكس، كان نجوم مثل دي جي جازي جاي DJ Jazzy Jay وروكي بوكانو Rocky Bucano رُوّاداً في ابتكار واستكشاف أساليب وتقنيات جديدة في إنتاج موسيقى الهيب هوب.
وأصبح الاستوديو الذي عُرف من باب التحبُّب باسم ”المختبر“ The Lab، بمنزلة بوتقة للإبداع، حيث ابتكر الفنانون والمنتجون طرقاً جديدة للتعبير الموسيقي أدت إلى توسيع نطاقه لتجاوز المعايير التقليدية. هنا اكتشفتُ للمرة الأولى كيف يمكن أن يتقاطع الفن (الموسيقى) مع العلم (التكنولوجيا) من خلال تقنية أخذ العينات الرقمية التي تقوم على أخذ مقطع موسيقي مثل إيقاع أو نغمة من أغنية، ثم معالجتها لإدخالها في سياق موسيقي جديد، وهي تقنية كانت حاسمة في تطور موسيقى الهيب هوب.
بعد سنوات، عندما توجهتُ إلى جامعة إمبريال كوليدج لندن Imperial College London، انخرطتُ من جديد في فضاء يتلاقى فيه الإبداع والاستقصاء والبحث. في طريقي إلى العمل كل يوم، كنت أتوقف بانتظام في استوديو المنتج الشهير براين إينو Brian Eno، حيث تابعت مباشرة بنفسي مزيجه الفريد من التعبير الفني والاستكشاف العلمي.
هنا، وسط أجهزة التوليف ولوحات المزج، كانت أفكار إينو قادرةً على أن تتفتح وتزدهر. كان استوديو إينو أكثر من مجرد مكان لصنع الموسيقى؛ كان بمنزلة مختبر للتجارب الصوتية، حيث تلاشت الحدود بين الفن والعلم في سيمفونية من الابتكار.
لقد ألهمني هذا التلاقي بين الفن والعلم لاستكشاف الموضوع على نحو أعمق، وهو ما أدى في النهاية إلى تأليف كتابي ”جاز الفيزياء“ The Jazz of Physics الذي نُشر في العام 2016. وعبر صفحات الكتاب، سعيتُ إلى توضيح الخيوط المتشابكة التي تربط الموسيقى بالفيزياء، وكشفتُ عن ترابطٍ يتحدى التصنيف السهل. وبالاستعانة بالتوازي بين الارتجال الموسيقي وعدم اليقين الكمي، استكشفتُ اللغة المشتركة بين الإيقاع Rhythm والرنين Resonance التي تُشكل الأساس لكلا المجالين. ومع ذلك، حتى في مرحلة الإدراك المبكر هذه، كنتُ أعلم أنني ما زلت في بَدء رحلة من شأنها أن تأخذني إلى أبعد مما كنت أتخيل.
وبدافع الرغبة في مشاركة هذا الكشف مع الآخرين، شرعتُ في مسعى جديد عبر إعداد مادة جاز الفيزياء الحديثة The Jazz of Modern Physics لتدريسها في جامعة براون Brown University، في بروفيدنس، في رود آيلاند، حيث أعمل حالياً.
”اكتشِفوا طريقة جديدة لفهم سيمفونية الكون“
وهنا سعيت إلى جَسر الفجوة بين التخصصين، وتعريف الطلبة بعجائب الفيزياء الحديثة من خلال مبادئ الموسيقى والصوت. وكانت الاستجابة كبيرةً. اغتنم الطلبة من خلفيات متنوعة الفرصةَ لاستكشاف التقاطعات بين الفن والعلم بطرق جديدة وغير متوقعة. من التناغمات في نظرية الأوتار String theory إلى إيقاعات ميكانيكا الكم، اكتشفوا طريقة جديدة لفهم سيمفونية الكون التي تؤدَّى بلغة الرياضيات والألحان.
ولكن مهمتي لم تنتهِ عند هذا الحد. وانطلاقاً من إيماني بالقوة التحويلية للتعليم، أسست خارج الحصص التعليمية برنامج ”صوت+علم“ Sound+Science الذي يتيح للطلبة من المجتمعات المحرومة فرصةً لاستكشاف آفاق الموسيقى والفيزياء.
في هذا الملاذ الصوتي، يتمكن الطلبة من إطلاق العنان لإبداعاتهم باستخدام معدات الموسيقى الإلكترونية المتقدمة لدراسة فيزياء الأشكال الموجية والتناغمات. ومن خلال الاستكشاف العملي والتعاون مع طلبة الدكتوراه في كل من مجالَي الموسيقى والفيزياء، يمكنهم اكتشاف جمال التجريد الرياضياتي واختبار لحظات حماسية مشوِّقة من خلال التجارب الصوتية.
ستيفون عالم فيزياء نظرية متخصص في علم الكون وفيزياء الجسيمات والجاذبية الكمومية ومقره في جامعة براون في رود آيلاند. يعمل على استكشاف العلاقة بين الموسيقى والفيزياء والرياضيات والتكنولوجيا
دعونا نحتضنْ هذا التقارب المتناغم، حيث تجد لغة العلم تعبيرها في ألحان الموسيقى، وحيث تتلاشى الحدود بين التخصصات إلى درجة تنعدم معها أهميتها. ففي هذا الاندماج بين الفن والعلم يكمن مفتاح حل ألغاز الكون وأعماق الروح البشرية.