مهمة فوياجر والنقطة الزرقاء الباهتة: كيف التُقطت الصورة الأكثر شهرة في العلم
غاري هانت أحد العلماء المؤسسين لمهمة فوياجر يخبر عالم الفلك ستيوارت كلارك عن الفكرة التي كانت وراء الصورة، وكيف شكْلت حياته وكيف تغيرت وكالة ناسا منذ إلتقاط تلك الصورة قبل 30 عاماً.
الدكتور ستيوارت كلارك عالم الفلك وعلم الكونيات
يسمونها النقطة الزرقاء الباهتة Pale Blue Dot. قد تكون واحدة من الصور الأقل إثارة للدهشة التي يُحتمل أنك شاهدتها، لكن في الوقت نفسه، ربما تكون الأكثر أهمية. والشيء الوحيد ذو الأهمية حقيقةً في الصورة هو بكسل أزرق واحد باهت. ومع ذلك، فإن الضوء الملتقط في ذلك البكسل يأتي من الأرض. إنه ما يبدو عليه كوكبنا كله من مسافة نحو ستة بلايين كم (أربعة بلايين ميل). وقد ألهمت عالم الكواكب الشهير كارل ساغان Carl Sagan لكتابة كتابه الصادر عام 1994، نقطة زرقاء باهتة: رؤية مستقبل البشرية في الفضاء Pale Blue Dot: A Vision of the Human Future in Space. وفيه كتب: “انظر مرة أخرى إلى تلك النقطة. إنها هنا. إنه الوطن. إنها نحن”.
كان هذا هو الإدراك الذي لم يكن حتى الفريق الذي التقط الصورة جاهزاً تماماً له حتى رأوا الصورة. ويقول غاري هانت Garry Hunt: “لقد أدركنا جميعاً أن ما نراه في الواقع هو أن الأرض ليست أكثر من مجرد نقطة صغيرة بين النجوم، إنها صورة مرعبة جداً”. وغاري هانت هو أحد الأعضاء المؤسسين لفريق التصوير في مهمة فوياجر Voyager
mission. وهو يستخدم كلمة ‘مرعبة’ عن عمد، لأنه يقول إن ذلك جعله يدرك مدى هشاشة الأرض: “لقد جعلتنا ندرك أننا لا يمكننا الذهاب والعيش على كوكب المريخ ولا يمكننا الذهاب والعيش على تيتان ولا يمكننا الذهاب والعيش على إنسيلادوس…. لا يوجد مكان آخر يمكننا الذهاب إليه”.
لقد شارك هانت كخبير بفيزياء الغلاف الجوي في مهمة فوياجر عندما كان يعمل في مختبر الدفع النفاث Jet Propulsion Laboratory التابع لوكالة ناسا في كاليفورنيا. ورأى المهمة كفرصة لدراسة أجواء الكواكب الأخرى ومقارنتها بجو الأرض. فقد وضعه على مسار مهني لا يزال يتبعه منذ ذلك الحين.
ويقول: “على امتداد عدة عقود، كنت أتحدث خلال محاضرات في المدارس والجامعات والشركات وغيرها، يمكن أن أتحدث إلى أي شخص حول تغير المناخ. والصورة الأولى التي أعرضها دائماً هي صورة الأرض وهي تبدو كنقطة زرقاء”.
التقاط صور النظام الشمسي
في عام 1990 كانت مركبة فوياجر 1 قد عبرت بالفعل قرب المشتري وزحل وتيتان في طريقها إلى الفضاء العميق. واصل فريق التصوير العمل معاً استعدادا للقاء فوياجر 2 مع أورانوس ونبتون، لكنهم اختاروا فوياجر 1 لالتقاط الصورة في 14 فبراير لأنها كانت في موقع أفضل لذلك. وكانت النقطة الزرقاء الباهتة Pale Blue Dot واحدة من 60 صورة التقطت في ذلك اليوم حين تقرر التقاط صور لكواكب النظام الشمسي (لم يتمكن الفريق من تصوير عطارد وبلوتو).
ويقول هانت: “كانت أهداف المهمة الأساسية قد أنجزت بحلول ذلك الوقت وأردنا أن نختمها بشيء خاص حقاً…. كانت معظم الكواكب مصطفة بصورة مثالية واعتقدنا أنه إذا أمكننا التقاط صورة جماعية للكواكب فسيكون الأمر رائعاً. قال فريق التصوير، هذا آخر شيء نفعله، ثم سنوقف تشغيل الكاميرا”.
وافقت ناسا لكن الفريق كان عليه أن ينتظر النتائج. فعلى الرغم من أن الصورة التقطت في فبراير، إلا أنه لم يكن ممكناً تحميلها على الفور لأن مركبة الفضاء ماجلان وغاليليو التابعة لناسا كانت تستخدم كل عرض النطاق الترددي لشبكة الفضاء العميق Deep Space Network. فقد كان عليهم أن ينتظروا حتى شهر مارس للبدء بتحميل الصور. وفي المجموع، كان عليهم تحميل 640,000 بكسل من البيانات. وربما لا يكون ذلك كثيراً وفقاً لمعايير الصور الحديثة، لكن عندما تكون المركبة الفضائية على بعد ستة بلايين كيلومتر ولا تتجاوز قدرة الهوائي بضع مئات وات، فإن الأمر يستغرق وقتاً طويلاً. وبحلول شهر مايو كان الفريق قد استلم معظم الصور وعالجها ونشرها للجمهور.
لقد تركت مركبتا الفضاء التوأم فوياجر إرثاً علمياً هائلاً. فقد اكتشفتا البراكين على قمر المشتري آيو Io، والمحيط تحت أرض قمر أوروبا Europa. وقد مكنتانا من إلقاء أول نظرة عن قرب على حلقات زحل والطريقة المعقدة التي تتصرف بها.
ولدى النظر إلى المستقبل، يعتقد هانت أن هناك وجهة يجدر زيارتها من جديد، ويوضح: “أوه، سأذهب إلى تيتان من دون أي شك”. هذا لأنه يعتقد أن تيتان يشبه الأرض قبل أن تدب عليها الحياة. إذ حلل فريق فوياجر جو تيتان الكثيف في عام 1980، ثم هبطت مركبة هوغنس Huygens التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية على سطحه في عام 2005. لكن هانت يعتقد أنه لا يزال هناك الكثير للقيام به، إذ أنه قد يخبرنا عن الأرض في حالتها البدائية، و يقول: “ليس هناك شك في أنه يجدر بنا أن نلقي نظرة فاحصة على تيتان”.
فرصة ذهبية
يقر هانت بأنه التحق بالعمل في مشروع فوياجر في عصره ذهبي. وكان استكشاف الفضاء في مهده وتطغى روح الريادة الرائعة على مساعي تلك المرحلة. أما في الوقت الحالي، فيقول إن ناسا مختلفة: “الأمر أصعب بكثير حالياً لأن التمويل محدود. كان الأمر صعباً في وقتي، لكنه صار أكثر صعوبة حالياً. وكانت متعة العاملين في مختبر الدفع النفاث هي القدرة على التجربة والمحاولة والتعلم وارتكاب الأخطاء. هذا أصعب حالياً”.
ولا يتعلق الأمر بمجرد الأموال المستثمرة في هذه المهام: قد يتعلق الأمر بمجمل المسار المهني للقائمين عليها. يقول هانت: “لقد أجريتُ أول مقابلة مع بي بي سي BBC حول فوياجر قبل 48 عاماً، وها أنا هنا هذا الصباح أُجري مقابلة أخرى عن فوياجر. عندما تذهب وتشاهد إطلاق مركبة فضائية، تخيل فقط إذا فشلت وهي على المنصة أو حدث خطأ في جانب آخر. سيدمر ذلك التاريخ المهني للأفراد”.
لحسن الحظ، لم يحدث ذلك لفوياجر، وخلال العقود الثلاثة منذ نشر صورة النقطة الزرقاء الباهتة لأول مرة لا تزال أهميتها تزداد.
ويقول هانت: “أنا أكافح تغير المناخ منذ الأيام التي كنت فيها باحثاً في أواخر ستينات وأوائل سبعينات القرن العشرين. وشاركت في التسعينات في النقاش مع الشركات حول ما إذا كان تغير المناخ مهماً. وخسرت. وشعرت بالرعب لأنني خسرت. لكن حالياً، يدرك الناس فجأة ما يحدث بالفعل…. يجب أن يعمل الكوكب بكامله معاً، وصورة فوياجر تكاد تكون الشارة التي يجب أن ننظر إليها. إنها بالتأكيد بطاقة عيد الحب التي تمنحها فوياجر للجميع، وتقول: ‘هذا هو مكانكم، سجلوا ذلك. أنتم كسرة ضعيفة جداً في عالم من النجوم’”.