إنّ إجراء أبحاثٍ حول لغز كوني مثل المادة المعتمة لا يخلو من المنغصات. فمن ناحيةٍ ستتحمس للأمر لأنك قد تكون على الطريق التي ستؤدي بك إلى تحقيق اكتشاف علمي كبير. ومن ناحية أخرى من الصعب إقناع الناس بأن دراسة شيء غير مرئي، ولا يمكن الإمساك به، ويبدو أنه مصنوع من شيء غير معروف على الإطلاق هي أمرٌ يستحق العناء. وفي حين أن الغالبية العظمى من الفيزيائيين يجدون الأدلة على وجود المادة المعتمة مقنعةً، يواصل البعض دراسة بدائل لذلك، وآراء الإعلام والجمهور أكثر انقساماً. الرد الأكثر شيوعاً الذي أحصل عليه عندما أتحدث عن المادة المعتمة هو: ”أليس هذا مجرد شيء صنعه الفيزيائيون لجعل حساباتهم الرياضياتية تنطبق على تلك الظاهرة؟“.
قد يفاجئُك الجواب: نعم! في الواقع، كل شيء في الفيزياء وُضع لجعل حسابات الرياضيات تنطبق عليه.
”الفيزياء بكاملها تتعلق بإنشاء كون نموذجي على أساس الرياضيات“
عندما دخلتُ مجال العلوم لأول مرة، كان ما أثار حماستي هو فرصةَ تعلُّم بعض الحقيقة المطلقة عن الكون. وصف الراحل ستيفن هوكينغ Stephen Hawking عِلم الكونيات ذات مرة بأنه محاولة ”لفهم الكون“. ولكن في حين أن هذا التوصيف ملهم، فإن الفيزياء، من الناحية العملية، لا تُبنى حول الحقيقة المطلقة، بل على الإنتاج المستمر للتقريبات الرياضياتية وتنقيحها. هذا ليس فحسب لأننا لن نحصل بتاتاً على الدقة التامة في أرصادنا. الأمر هو أن الفيزياء بكاملها تتعلق بإنشاء كون نموذجي على أساس الرياضيات – أي مجموعة من المعادلات التي تبقى صحيحة عندما نعوض عنها بأرقام من أرصاد الظواهر الفيزيائية.
على سبيل المثال قانونُ نيوتن الثاني للحركة الذي يقول إنّ القوة = الكتلة × العجلة (التسارع)، هو نموذج رياضياتي يخبرنا بأننا إذا قسنا القوة المؤثرة في جسم ما، باستخدام وحدات مناسبة، يجب أن نحصل على عدد مساوٍ لحاصل ضرب كتلة الجسم والعجلة التي يتعرض لها عند تعرُّضه لتلك القوة.
في نسخة آينشتاين عن الجاذبية، النسبية العامة، تصير المعادلات أكثر تعقيداً، لكن الهدف هو نفسه. هناك دائماً مستوى من التجريد مدمج في الجهد، لأن ما يسمح لنا باستنباط تنبؤات أو تصميم تقنيات جديدة هو مجموعة من المعادلات التي يمكن كتابتها وحسابها، وليس مناقشة فلسفية حول طبيعة الواقع.
يظهر هذا المستوى من التجريد بنحو خاص في فيزياء الجسيمات، لأن وجود أو عدم وجود جسيم ما على نطاق تحت (دون) ذري Subatomic هو مفهوم غامض إلى حدٍّ ما. لا تتضمن المعادلات التي تصف حركة الإلكترون عبر الفضاء جسيماً على الإطلاق، بل هي عبارة عن كائن رياضياتي مجرد يسمى دالة موجية Wave function يمكن أن تنتشر وتتداخل مع نفسها.
هل من الصحيح، إذن، أن نقول إن الإلكترون ”حقيقي“ عندما يكون في حالة حركة؟ إذا كنا نعتقد أن الإلكترونات أشياء حقيقية، فهل بادرنا من فورنا إلى صياغة دالة موجية لجعل الرياضيات تنطبق على تلك الحالة؟ بالتأكيد – كان هذا، في الواقع، بيتَ القصيد. لن نتمكن من جعل المعادلات صحيحة لو كان الإلكترون جسيماً صلباً ومعزولاً، لذلك استنبطنا شيئاً لم يكن كذلك، ثم صارت الأرقام مفهومة.
قد نجد في المستقبل بعض الحلول التي نفضلها على دالة الموجة ونتخلى عن هذا المفهوم تماماً. ولكن إذا فعلنا ذلك، فسيكون بسبب توقُّف الرياضيات عن أن تكون مفيدة: سيكون لدينا بعض النتائج التجريبية أو الرصدية التي لا تبدو منطقية عندما نضع البيانات في معادلاتنا الحالية.
يعتمد العالِم على الدوام على الرياضيات لتكوين فكرة عما يحدث في الواقع. قبل القبول بفكرة أن الأرض تدور حول الشمس، استخدم علماء الفلك أفلاك التدوير Epicycles – وهي حلقات مدارية صغيرة – لوصف حركات الكواكب في نظام متمركز حول الأرض. غالباً ما يستخدم هذا البناء، بنحو غير منصف إلى حد ما، كمثال رئيس على ”اختلاق شيء ما لجعل الرياضيات تنطبق“ بنحو خاطئ.
في حين أنه صحيحٌ أننا تخلينا عن دوائر التدوير في القرن السابع عشر، إلا أن الرياضيات هي التي دفعتنا إلى أن نفعل ذلك. فمعادلات نيوتن للجاذبية العالمية والنسبية العامة لآينشتاين ليست مصنوعة من مواد أقوى من المعادلات القديمة للحركة التدويرية، لكنها تلائم الأرصاد بنمط أفضل وتجعل التنبؤات أسهل، لذلك نستخدمها كأساس لنموذجنا التجريدي للكون المرصود Universe.
بينما تحدد الطريقة التي نلاحظ بها شيئاً ما نوعَ نقاط البيانات التي يمكننا استخدامُها، فإن كل ما نفعله – في النهاية – هو جعلُ أنفسنا قادرين على استخدام معادلات الرياضيات. نأمل بالتأكيد أن تقدم لنا كل هذه الحسابات وصفاً أفضل للواقع.
د. كيْتي ماك
(AstroKatie@)
كيْتي عالمة في الفيزياء الفلكية النظرية. تشغل حالياً منصب كرسي هوكينغ Hawking Chair in Cosmology and Science Communication في علم الكونيات والتواصل العلمي في معهد بيريمتر للفيزياء النظرية Perimeter Institute for Theoretical Physics