أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاء

الـــبــحـــث عن أقـــــــدم المـجـرات في الكون

مشروع «ريلكس» RELICS يصوّر منطقة من أبيل 1758 (Abell 1758)، وهو عنقود هائل من المجرات

كلما تعمقنا في النظر إلى الحجم الهائل للفضاء، ازدادت الفترة الزمنية التي يمكننا رؤيتها في الماضي. وحاليا، يدفع مشروع «ريلكس» RELICS لوكالة ناسا هذه الظاهرة إلى أبعد حد ممكن في محاولة لرصد المجرات التي تشكلت في البدايات المبكرة للكون

مع توسّع كرة النار التي هي الانفجار الكبير Big Bang وتبرّدها، تحولت من التوهج لدرجة الابيضاض إلى اللون الأحمر الكرزي قبل أن تتلاشى أخيراً، بحيث لم تعد مرئية. وغمر الكونُ السوادَ وامتد عصر الظلام الكوني الناتج السرمدي. وبمرور الزمن تضاعف حجم الكون، ثم تضاعف مرة أخرى، مراراً وتكراراً. وبعد ذلك، وفي أحد الأيام، حدث شيء غير عادي. فقد انتهى عصر الظلام. وفي كل أرجاء الكون بدأت النجوم تلمع مثل الأضواء على شجرة عيد الميلاد.
النجوم الأولى إما تجمعت معاً بفعل الجاذبية لتشكّل المجرات الأولى، أو أنها نشأت بالفعل في سحب الغازات والغبار التي شكلت المجرات الأولى. وتتسارع وتيرة البحث عن هذه المجرات الأولى حاليّاً. واكتشف أحد المشروعات- وهو مسح العناقيد المجرية بعدسة إعادة التأين Re-ionization Lensing Cluster Survey، أو «ريلكس»
(اختصارا: المشروع RELICS)- نحو 300 مجرة وجدت في أول بليون سنة من تاريخ الكون. وإحدى المجرات على وجه الخصوص هي من القدم لدرجة أن الكون الذي احتلته بلغ مجرد %3 من عمره الحالي البالغ 13.82 بليون سنة. وتظهر هذه الأجرام في تلسكوبات الفلكيين كصور تلوية After-images مستمرة، بعد أن سافر ضوؤها عبر الفضاء لبلايين عديدة من السنين قبل أن يصل إلينا.

الرجوع عبر الزمن
شارك أكثر من 40 عالماً فلكيّاً في العديد من البلدان في المشروع RELICS، فأسهموا في مئات الساعات من زمن الرصد على تلسكوب هابل الفضائي
Hubble Space Telescope وتلسكوب سبيتزر الفضائي Spitzer Space Telescope. ومع ذلك، فإن أداة المراقبة الرئيسية هي الكون نفسه. وتعمل مجالات الجاذبية لمجموعات العناقيد الضخمة من المجرات التي تتناثر عبر الكون كعدسات عملاقة تركّز وتعظّم ضوء المجرات السحيقة التي غالباً ما تكون باهتة لدرجة لا يمكن معها رؤيتها بأي وسيلة أخرى. ويقول دان كو Dan Coe، الباحث الرئيسي في المشروع RELICS بمعهد علوم تلسكوبات الفضاء Space Telescope Science Institute في بالتيمور: «نحن نستفيد من تلسكوب الطبيعة». وللعثور على مجموعات العدسات المفيدة التي ستساعده على اكتشاف أقدم المجرات، بحث كو عبر أرشيف تلسكوب هابل للصور وفي فهرس حديث لنحو 1000 عنقود مجرّي رصدها القمر الاصطناعي بلانك Planck التابع لوكالة الفضاء الأوروبية (اختصارا: الوكالة ESA). وتمثل الغرض الأساسي للقمر الاصطناعي بلانك في تصوير إشعاع الخلفية الكونية- «التوهج اللاحق» Afterglow – لكرة النار التي تمثل الانفجار الكبير نفسه- لكن «الضوء تحت الأحمر البعيد» الذي التقطه يأتي بدوره من الغبار الدافئ في عناقيد المجرات. وويضيف كو: «انتهينا إلى دراسة 41 عنقوداً ضخماً من المجرات، والتي اخترناها لكتلتها الهائلة؛ مما يجعلها عدسات ثقالية قوية بدرجة هائلة».
وتوجد في الجوار المباشر لكل عنقود حرفيّاً آلاف الصور المبهمة للمجرات البعيدة التي صورها العنقود بالمصادفة «بعدسة جاذبيته». لكن معظمها مجرات لا تفصل بينها مسافات هائلة، ومن ثم لا تنتمي إلى الكون المبكر جدّاً. ويقول كو: «تكمن حيلة اكتشاف أجرام قديمة حقاً في البحث عن المجرات ذات العدسات التي تظهر في صور الأشعة تحت الحمراء لتلسكوبي هابل وسبيتزر، ولكن ليس في صور هابل التي التقطها في ظل الأطوال الموجية المرئية». ولكن لكي نفهم لماذا يكشف هذا عن المجرات المبكرة والبعيدة جدا، نحتاج إلى مراجعة مفهوم «الانزياح نحو الأحمر» Redshift.

رؤية الأحمر
عندما كان الكون أصغر سنّاً، كان أقل حجما. ووجدت أبعد المجرات التي رصدها المشروع RELICS قبل أكثر من 13 بليون سنة، عندما كان حجم الكون أقل من واحد في الألف من حجمه الحالي. ومع توسع الفضاء خلال تلك الفترة، تسبب ذلك أيضاً في تمديد الضوء المنبعث من تلك المجرة. ولأن للضوء الأحمر طولا موجيا أطول مما للضوء الأزرق، فإن ضوء هذه المجرات ينتقل إلى الطرف الأحمر من الطيف، أو «ينزاح نحو الأحمر».
حدث انزياح شديد نحو الأحمر في ضوء المجرات الأولى لدرجة أن الضوء المرئي يظهر الآن «تحت الأحمر»، بأطوال موجية تتجاوز الطرف الأحمر للطيف. ولذلك، تتميز المجرات بخاصية فريدة من نوعها، وهي أنها غير مرئية للكاميرا الاستقصائية المتقدمة Advanced Camera for Surveys لتلسكوب هابل، لكنها مرئية لكاميرا هابل الواسعة المجال الثالثة Wide Field Camera 3، والحساسة للضوء تحت الأحمر. وكذلك فإن الأدوات تلسكوب سبيتزر للتصوير بالأشعة تحت الحمراء أهميتها في تحديد ما إذا كانت المجرات تعرضت لانزياح شديد جدا نحو الأحمر، أو أنها أقل بُعداً لكنها حمراء اللون جوهرياً بسبب الغبار أو عمرها المتقدم.
وتقوم عدسة الجاذبية Gravitational Lens التي يشكلها عنقود مجري بتكبير منطقة صغيرة من سماء الليل، ولذلك يتوقع أن تحتوي هذه المنطقة على الأرجح على مساحة فارغة أكثر من أي مجرات في الكون السحيق. ومع ذلك، فقد اتضح أن المجرات في الكون المبكر كانت أصغر حجماً وأكبر عدداً بكثير، ومن ثمَّ هناك فرصة جيدة لأن تظهر في مجال رؤية أي عدسة جاذبية. ويفسر هذا سبب أن المشروع لم يعثر على حفنة من المجرات فحسب، بل على نحو 300 منها، يعود تاريخها إلى البليون سنة الأولى من عمر الكون، وتشمل أسطع المجرات التي رُصدت من تلك الحقبة.
من بين الـ 300 مجرة، توجد المجرة SPT0615-JD، التي يفتقر اسمها إلى الخيال. وتبلغ درجة انزياحها إلى الأحمر 10؛ مما يعني أنها كانت موجودة عندما كان الكون المرصود أقل من عُشر قطره الحالي، ولم يكن عمره يزيد على 400 مليون سنة (المجرة التي تحتفظ بالرقم القياسي الحالي، التي وجدت في مسح سابق، يبلغ انزياحها إلى الأحمر 11). وقد شوّه تأثير عدسة المجرة إلى «قوس» ممتد. ويقول كو إنه ستكون هناك حاجة إلى مزيد من الرصد من أجل التعرف على أي تفاصيل. ومع ذلك، فمن الواضح بالفعل أن المجرة SPT0615-JD مختلفة تماماً على المجرات الحالية، فلا يزيد قطرها على جزء من 20 من قطر مجرتنا درب التبانة، وتقل كتلتها عنها بمئة مرة، ولا تتسم بأي من صفاتها القياسية. وفي الواقع، يشير كو وزملاؤه إلى ذلك باعتباره «لطخة». وكذلك؛ فالمجرات الـ300 الأخرى صغيرة الحجم بالمثل.
وإذا كانت لدينا آلة للزمن وأمكننا أن نعود إلى نقطة انزياح إلى الأحمر قدرها 10؛ فسنجد أنفسنا في عالم مختلف. ولن تكون هناك مجرات ذات بنى متميزة مثل «الإهليلجات العملاقة» و «الحلزونات» التي نراها في المجرات اليوم. وبدلا منها، سنرى نقاطاً صغيرة غير منظمة، وغالباً ما يقل قطرها عن %1 من قطر مجرة درب التبانة. ومثل هذه المجرات ستخضع لتكوّن النجوم بمعدلات سريعة، غالباً بوتيرة أسرع بمئات أو آلاف المرات من المجرات الحالية. وهناك سببان على الأقل لذلك: أولاً، كانت الغازات وفيرة حينئذ- وهي المادة الخام للنجوم.
ثانياً، عند الانزياح إلى الأحمر بمقدار 10، كان عدد المجرات يزيد بآلاف المرات على عدد المجرات الحالية كما كانت أقرب بكثير من بعضها بعضا؛ مما أدى إلى تصادمات واندماجات متكررة بينها، وحفَّز فترات محمومة من تكوّن النجوم.
وحقيقة أن عمليات الاندماج كانت سمة سائدة في بداية الكون قد تخبرنا بأمر مهم عن المجرات في ذلك الوقت. و يقول كو: «من المرجح جدا أننا نرى اللبنات التي شكّلت المجرات الحالية. وبمرور الزمن تحتم على هذه المجرات القديمة أن تتصادم وتندمج معاً مراراً وتكراراً.
وفي الواقع، فقد مرت مجرتنا درب التبانة بآلاف من عمليات الاندماج هذه لكي تصل إلى حجمها الحالي. ووفقاً لـكو، فلم نتمكن حتى الآن من رؤية المجرات الأولى، لأنه حتى أبكر المجرات التي وجدناها تحتوي على نجوم حمراء ساطعة زاهية تقترب من نهاية حياتها. وربما تشكّلت المجرات الأولى بعد 200 مليون سنة فقط من الانفجار الكبير. ويقول كو، إن أفضل أمل باكتشافها هو استخدام تلسكوب جيمس ويب الفضائي James Webb Space Telescope، وهو خليفة لتلسكوب هابل، المقرر إطلاقه في عام 2021. وبمرآته الأولية البالغ قطرها 6.5 متر، سيدور حول الشمس عند نقطة لاغرانج -2 Lagrange-2 point، على بُعد نحو مليون كم من الأرض. ونقاط لاغرانج هي مناطق في الفضاء توازن فيها جاذبيتا الشمس والأرض بين الحركة المدارية للقمر الاصطناعي. ويسمح وضع المركبة الفضائية في أي من هذه النقاط ببقائها في وضع ثابت بالنسبة إلى الأرض والشمس، مع الحد الأدنى من الطاقة اللازمة لتغيير اتجاهها.

الحفر عميقا
وبالنظر إلى أن تلسكوب جيمس ويب سيكون حساساً للأشعة تحت الحمراء البعيدة؛ فسيمكنه اكتشاف المجرات ذات الانزياح الشديد نحو الأحمر. ويؤمل بأن يسلط تلسكوب جيمس ويب الضوء على «إعادة التأين الكوني» Cosmic Re-Ionisation، وهو حدث رئيسي سَبَّب تغيراً جوهرياً في طبيعة الغازات الطافية عبر الفضاء في الكون المبكر. وبعد نحو 380 ألف سنة من الانفجار الكبير، كانت كرة النار قد بردت بدرجة تكفي لاندماج الإلكترونات في أنوية الهيدروجين والهيليوم لتشكيل أولى الذرات في الكون. ومع ذلك، فهناك لغز. اليوم، عندما يرصد علماء الفلك غاز الهيدروجين الطافي في الفضاء، فإنهم يكتشفون أن إلكتروناته انطلقت بعيداً- أي «أعيد تأيينها». والشيء الوحيد الذي كان بإمكانه أن يعيد تأيين الكون هو الضوء فوق البنفسجي العالي الطاقة. فمن أين أتى؟
تشير مشاهدات التلسكوب بلانك إلى أن إعادة التأيين بدأت عندما بلغ مستوى الانزياح نحو الأحمر 9 تقريباً. وأحد الاحتمالات هو أن الضوء فوق البنفسجي المسؤول أتى من النجوم الأولى، التي ربما بدأت تتشكل بعد 100 مليون سنة فقط من نشأة الكون. والاحتمال الآخر هو أن الضوء فوق البنفسجي جاء من المادة المسخنة لدرجة البريق وهي تهوي في الثقوب السوداء الهائلة التي تشكلت في قلوب المجرات الحديثة التكوّن؛ مما جعلها تتألق ككوازارات (نجوم زائفة) Quasars فائقة السطوع. ويعتقد كو أن من المحتمل وجود مصادر متعددة أعادت تأيين الكون، ويقول: «ربما كانت النجوم مسؤولة عن معظم إعادة التأيين، فيما تسببت الكوازارات في بعضها».
ويضيف: «أن هناك مصدرا آخر لذلك – ربما فناء جزيئات المادة المعتمة Dark Matter، وهي المادة الغامضة غير المرئية المعروف أن وزنها يفوق النجوم والمجرات بستة أضعاف».
لكن الأمل معقود بأن يساعد تلسكوب جيمس ويب على الإجابة عن الكثير من الأسئلة الأخرى. مثل: متى تشكلت النجوم الأولى؟ هذه النجوم من الجمهرات النجمية الثالثة Population III stars، كما تُعرف، لم تكن تحتوي إلا على الهيدروجين والهيليوم من الانفجار الكبير، لكنها لم تحتوِ على العناصر الأثقل مثل الأكسجين والكالسيوم والحديد، التي لا يمكن أن تتشكّل إلا عبر التفاعلات النووية داخل النجوم. ولم يكتشف أحدٌ أيَّ نجم من الجمهرات النجمية الثالثة، التي يتوقع أن تكون أكثر ضخامة بكثير من النجوم الحالية، والتي تنطلق إلى حتفها بسرعات مذهلة خلال بضعة ملايين من السنين فقط قبل أن تنفجر أعظمية سوبرنوفا (كمستعرات) Supernovae.
رصد التلسكوب هابل بالفعل مجرات تتحول من نقاط عديمة الشكل إلى بنى مرتبة، تدور مثل الحلزون الكبير لمجرة درب التبانة، لكن تلسكوب جيمس ويب قد يكتشف أولى المجرات التي أظهرت هذا الدوران المنتظم. وفي الواقع، هناك احتمال مفاده ألا يتمكن كو وفريقه من تحديد ذلك عن طريق مشاهدات المتابعة باستخدام صفيف أتاكاما الكبير المليتري الطول الموجي Atacama Large Millimeter Array في تشيلي. وإذا تمكنوا من اكتشاف انبعاثات الأكسجين في أيٍّ من مجراتهم القديمة، فإن الاختلافات في وتيرة هذه الانبعاثات عبر المجرات قد تكشف ما إذا كانت بعض الأجزاء تتحرك نحونا وبعضها الآخر يبتعد عنا بطريقة منهجية. ويُعد تأثير دوبلر هذا Doppler Effect دليلاً دامغاً على دوران المجرة.
قد يجيب تلسكوب جيمس ويب عن أسئلة أخرى، مثل: متى تشكلت المجرات الأولى؟ وكيف كانت أشكالها؟ وهل مثّلت حقا لبنات بناء مجرات مثل درب التبانة؟ ويقول كو: «لقد رصدنا تطور المجرة على مدار 13.4 بليون سنة من الزمن الكوني- وهذا يمثل %97 من الطريق إلى البداية، لكنني متحمس جدا لاكتشاف الـ %3 الباقية- وهي آخر قطعة متبقية في الأحجية».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى