الذكريات هي حقائقنا الخاصة… حقائق يمكن أن تكذب
الذكريات الزائفة تثير جدلاً شائكاً في عالم الأبحاث وفي قاعة المحكمة على حد سواء.
تُلهب الذكريات الزائفة False memories خيال الناس، لا سيما عندما تظهر على نحو غير متوقع في دعاوى قضائية تحظى بتغطية إعلامية واسعة. كما هي الحال في العام 2021، عندما اتُّهمت نجمة المجتمع جيسلين ماكسويل Ghislaine Maxwell- وأُدينت- بالاتجار جنسياً بالأطفال.
خلال المحاكمة استدعى الدفاع أبرز باحثة في مجال الذكرى الزائفة، البروفيسورة إليزابيث لوفتوس Elizabeth Loftus من جامعة كاليفورنيا في إيرفين University of California Irvine، إلى المنصة. هناك قالت شيئاً يقوله باحثو الذاكرة بانتظام: “[الذاكرة] لا تعمل مثل جهاز تسجيل… نحن في الواقع نبني ذاكرتنا في حين نستعيد الذكريات”. لكن تصريحاً يُنظر إليه في قاعة محاضرات جامعية على أنه حقيقة علمية، يُعد في أكثر الأحيان غير أخلاقي في المحكمة. لماذا، في قاعة المحكمة، يتعرض خبراء مثل لوفتوس في أكثر الأحيان للهجوم واتهامهم بتقويض روايات الشهود؟
الذاكرة الكاذبة هي مصطلح يطلق على الذكريات التي تكون غير صحيحة إما جزئياً أو كلياً. لدينا جميعاً ذكريات حافلة بتفاصيل زائفة: ذكريات نخطئ فيها في أعمارنا، أو نتذكر وجود صديق في حفل لم يحضره. حتى أنه من الشائع جداً “سرقة” ذكريات كاملة، خاصة من الأشقاء.
في بيئات العدالة الجنائية يمكن أن تشمل العمليات نفسها شاهداً يخطئ في التعرف على الجاني أو في تذكُّر تفاصيل مهمة، وحتى وقائع جريمة بكاملها. الذكريات الزائفة ليست أكاذيب متعمدة، لكنها حقائق ذاتية غير مقصودة. الذكريات الزائفة هي حقائقنا الخاصة.
“تقبَّل باحثو الذاكرة منذ فترة طويلة وجود الذكريات الزائفة، حتى في الأدمغة الطبيعية”
لكن من أين تأتي الذكريات الزائفة؟ في العام 2015، أجريتُ تجربة لمعرفة ذلك. بعد ثلاث مقابلات استطلاعية أو موحية، طور %70 من المشاركين في تجربتي ذكريات زائفة. اعترف عدد منهم، مع إيراد تفاصيل واضحة، بجرائم لم تحدث في الواقع. أظهرت دراسات أخرى أن هذه الذكريات الزائفة بدت حقيقية للآخرين. بالطبع يجب أن يمر بحث مثل هذا من خلال مجالس الأخلاقيات، وأبلغ المشاركون بالأمر. لكن هذه الدراسات أظهرت كيف يمكن إنشاء ذكريات زائفة وما إذا كان في الإمكان تمييزها بنحو موثوق به عن الذكريات الحقيقية. وهي قد تساعدنا على تجنب ظهور الذكريات الزائفة في مواقف في العالم الحقيقي حيث تكون المخاطر أكبر بكثير.
في الإطار القانوني يُستدعى عادةً خبراء الذاكرة الزائفة للعمل على القضايا التي يُعتقد أن عناصر الذاكرة المهمة فيها زائفة.
قد لا تتطابق لقطات كاميرات المراقبة مع رواية شاهد عيان، أو أن شخصاً ما طُلب إليه التعرفُ على المشتبه فيه انتقل من كونه غير متأكد إلى كونه واثقاً جداً. السؤال الموجه إلى الخبير هو ما إذا كانت هذه الأخطاء ناجمة عن ذكريات زائفة. وينبغي أن يمكِّن تثقيفُ الشرطة والمحلَّفين والقضاة حول الكيفية التي تعمل وفقها الذاكرة من التمييز، على نحو أفضل، بين الأدلة القائمة على الذاكرة، وهل هي عالية الجودة أو متدنية الجودة (أو حتى مستحيلة).
على الرغم من أن الادِّعاء استدعاني كخبيرة، فقد استُدعيتُ في أكثر الأحيان من قِبل الدفاع. وهذا بسبب الكيفية التي يعمل وفقها عبء الإثبات The burden of proof. يريد محامو المدعى عليه تقديم شك معقول، والتشكيك في تذكُّر الشهود للأحداث هو إحدى الطرق لفعل ذلك.
ضمن أبحاث الذاكرة، هناك أيضاً نقاشات محتدمة. من يمكنه أن يقول ما الذي يمكن اعتباره ذكرى زائفة؟ لقد جادلتُ بأن الأفراد فقط هم من يمكنهم معرفة ما إذا كانت الذاكرة تبدو حقيقية لهم، لكن خبراء الذاكرة الآخرين يعتقدون أن الباحثين فقط هم من يمكنهم التعرف على الذكريات الزائفة. أدت مثل هذه الحجج إلى حالات انتهى فيها المطاف إلى مواجهة في المحكمة بين خبراء الذاكرة الزائفة الذين عينهم الدفاع والادعاء على أساس خلافاتهم العلمية، مما جعل الأمر يبدو أكثر إرباكاً مما هو عليه في الواقع. لقد تقبل باحثو الذاكرة جميعاً وجود الذكريات الزائفة، حتى في الأدمغة الطبيعية.
ولكن في الحالات التي تكون فيها الذكريات هي الدليلَ الأساسي، بما في ذلك الحالات التي تنطوي على اعتداء جنسي، حيث لا يوجد دليل مادي أو دليل من كاميرات المراقبة، تكون المخاطر كبيرة والعواطف حتى أقوى. والباحثون من أمثالي وأمثال البروفيسورة لوفتوس يتنقلون بين عالمين: العالم العلمي، حيث تنتصر الحقائق، والعالم القضائي، حيث تنتصر “الحقائق القانونية”، والشيء الوحيد المهم هو ما يمكن إثباته في المحكمة.
لماذا نهتم؟ صار لدى معظمنا اهتمام بالذكريات الزائفة بسبب حالات الإدانة الخاطئة. يتكون انطباع لا يُمحَى لدى رؤية الضحية يشير إلى المشتبه فيه بكل يقين، ليدرك بعد سنوات أن الشخص الذي وضعه في السجن لم يكن الجاني
على الإطلاق. بصفتنا خبراء في الذاكرة الزائفة فإن مهمتنا
هي المساعدة على منع الأدلة غير الموثوق بها من تلويث
نظام العدالة، إنها محاضرة واحدة قصيرة في قاعة المحكمة في كل مرة.
د. جوليا شو Dr. Julia Shaw
(@drjuliashaw) جوليا عالمة نفسية من جامعة يونيفرسيتي كوليدج لندن University College London، ومؤلفة عديد من الكتب الأكثر مبيعاً، والمضيفة المشاركة في البودكاست الناجح Bad People على BBC Sounds.