المادة المعتمة: هل حان الوقت للتخلي عن البحث عنها؟
بعد عقود من البحث عن المادة المعتمة من دون نتيجة، يقول بعض الباحثين إننا يجب أن نأخذ بجدية أكبر إمكانية العثور على نظرية جديدة للجاذبية.
ينبئُنا اثنان من الشذوذات الكونية أن هناك شيئاً كبيراً مفقوداً من نموذجنا للكون. أولاً، تدور النجوم في المناطق الخارجية لمجرة نموذجية حول المركز بسرعة كبيرة لا يمكن معها لجاذبية المجرة أن تمسك بها. على هذا الأساس، يُتوقع أن تطير إلى الفضاء بين المجرات.
الشذوذ الثاني هو أنك تقرأ هذه الكلمات، بمعنى أن مجرات مثل درب التبانة، ومن ثمّ أنتم موجودون. وفقاً للصورة القياسية لتكوين المجرات، فإن مناطق الحطام التي هي في طور التبرد للانفجار الكبير (العظيم) Big Bang والتي كانت أكثر كثافةً قليلاً من المتوسط، يجب أن تكون لها جاذبية أقوى قليلاً، وأن تسحب المواد بنحو أسرع، مما يعزز جاذبيتها حتى تسحب المادة بمزيد من السرعة، وهكذا دواليك. لكن هذه العملية – على غرار أن المال يجرُّ المال – ما كان في إمكانها أن تبني مجرات بحجم مجرتنا درب التبانة خلال 13.8 بليون سنة من وجود الكون.
في مواجهة هذه الحالات الشاذة افترض معظم علماء الفلك أن الكون يحتوي على مواد غير مرئية، أكثر بنحو خمسة أضعاف مادة النجوم والمجرات المرئية. وهم يزعمون أن الجاذبية الإضافية لمثل هذه ”المادة المعتمة“ (المادة المظلمة) Dark matter هي التي تمسك بالنجوم في المجرات وهي التي سرعت تشكُّل المجرات. ومع ذلك فإن هناك احتمالاً منطقياً أيضاً هو أن الجاذبية، بالمقاييس الكونية، أقوى مما توقع نيوتن.
في العام 1981، وجد الفيزيائي البروفيسور مردخاي ميلغروم Mordechai Milgrom أن الحركة المدارية الشاذة للنجوم في المناطق الخارجية من المجرات يمكن تفسيرها إذا كانت تتعرض لشكل أقوى من الجاذبية. وهذا يعني أن الجاذبية تضعف بسرعة أقل مع اتساع المسافة مما تتنبأ به نظرية الجاذبية النيوتونية، و”تتحول“ إلى هذا الشكل عندما تشهد النجوم عتبة تسارع معينة باتجاه مركز مجراتها. وهكذا ولدت الفرضية المعروفة حالياً باسم الديناميكيات النيوتونية المعدلة Modified Newtonian Dynamics وتُعرف اختصاراً باسم الفرضية MOND.
“الاحتمال المنطقي أيضاً هو أن الجاذبية، على المقاييس الكونية، أقوى مما توقع نيوتن”
الجاذبية هذا التسارع لإبقائها في المدار. النقطة المهمة هي أنه في الفرضية MOND، تتحول الجاذبية إلى الشكل الأقوى عند عتبة تسارع 10 متر/ ثانية والتي توجد بوجه عام في المناطق الخارجية للمجرات الكبيرة.
ولكن غالبية علماء الفلك أصروا على فكرة المادة المعتمة، وصارت جزءاً لا يتجزأ من النموذج القياسي لعلم الكونيات Cosmology، المعروف بالنموذج Lambda-CDM. تشير Lambda إلى ”الطاقة المعتمة“ (الطاقة المظلمة) Dark energy الغامضة التي تعمل على تسريع توسع الكون، وCDM إلى “المادة المعتمة الباردة”. نظراً إلى أن المادة المعتمة الباردة CDM تتكون من جزيئات تتحرك ببطء، فإنها تتجمع في كتل بفعل الجاذبية، كتل تسحب بعد ذلك المادة العادية لتكوين مجرات مرئية.
حالياً يزعم فيزيائيون بقيادة د. إندرانيل بانيك Indranil Banik من جامعة سانت أندروز St. Andrews University في إسكتلندا أن أرصاد الكون يمكن، في الواقع، تفسيرها بنحو أفضل من خلال تعديل نظريتنا الحالية للجاذبية أكثر منه بواسطة المادة المعتمة.
ويقولون إن النموذج Lambda-CDM جيد جداً في تفسير ما نرصده. يقول بانيك: ”لكن هذا يحدث عادة بعد حدث الرصد… أما الفرضية MOND فهي أفضل في التنبؤ بالأشياء قبل رصدها“.
يتمثل أحد أوجه القصور الواضحة في النموذج MOND في أنه ما زال في حاجة إلى عنصر من المادة المعتمة لشرح حركات المجرات في عناقيد المجرات – ربما جسيم ثقيل افتراضي يُعرف بالنيوترينو العقيم Sterile neutrino. ومع ذلك، لا يرى بانيك أن هذا يمثل بالضرورة مشكلة.
يقول: ”في مجموعتنا الشمسية، تطلبت المدارات الشاذة لكوكبين تفسيرات جديدة… بالنسبة إلى أورانوس، كان ذلك بمنزلة [قوة] سحب كوكب جديد، هو نبتون – أي المادة المعتمة في الأساس. بالنسبة إلى عطارد، كانت نظرية جديدة في الجاذبية، وبالتحديد نظرية آينشتاين“.
الفرضية الرئيسة لبانيك وزميله في سانت أندروز هي أن هناك عديداً من الأرصاد التي لا تستطيع المادة المعتمة تفسيرها، لكن يمكن أن تفسرها الجاذبية المعدلة. على سبيل المثال تتنبأ الأولى بأنه يجب توزيع المجرات التابعة بشكل كروي، مثل سربٍ من النحل، ولكن في عديد من المجرات، بما في ذلك مجرتنا، فإنها تدور في مستوى واحد.
كذلك فإن حركة التركيبات ذات الشكل الشريطي المكونة من النجوم التي تُرى في قلب بعض المجرات الحلزونية، يُفترض أن يبطئها ”شريطٌ من المادة المعتمة“ Dark matter bar يدور خلفها مباشرةً. يقول بانيك: ”ومع ذلك لم تتسنَّ رؤيةُ هذا، لدى قياس سرعة 42 من هذه الشرائط“.
من ناحية أخرى يرى أنصار المادة المعتمة هذه الأشياء على أنها تعارضات ستفسَّر في النهاية، وليست عيوباً قاتلة في النموذج.
يقول البروفيسور جيمس بيبلز James Peebles من جامعة برينستون Princeton University، حائز جائزة نوبل عن نظرية المادة المعتمة الباردة: ”كثير من الأرصاد المترابطة لا معنى لها إلا مع المادة المعتمة… هذا لا يعني أن النظرية Lambda-CDM هي الحقيقة الكاملة؛ لكنه تقدير تقريبي جيد“.
لكن بانيك لا يوافقه الرأي. ومع ذلك فهم لا يعتقدون أن من يجرون تجارب بحثاً عن جسيمات المادة المعتمة على الأرض يجب أن يستسلموا؛ كل ما في ا لأمر أن عليهم أن يصمموا تجاربهم المستقبلية بحيث حتى لو فشلوا في العثور على المادة المعتمة المُقترحة، فإنهم سيكشفون شيئاً مهماً عن الطبيعة.
يقول بانيك: ”على سبيل المثال، سيخبرنا البحث عن نيوترينوات عقيمة، حتى لو لم يُعثر عليها، بمزيد عن النيوترينوات… نظراً إلى أن خصائصها لا يتنبأ بها النموذج القياسي Standard Model لفيزياء الجسيمات، فإن أي شيء نكتشفه سيقترح شيئاً ما على صلة بنظرية كل شيء Theory of Everything الأعمق والتي يُعتقد أن النموذج القياسي تقريبي لها“.
ماركوس عالم فلك راديوي سابق وصحافي علمي ومؤلف ومذيع. أحدث كتاب له هو إنجاز خارق Breakthrough (منشورات: Faber & Faber)
تعليق واحد