أتذكر المرة الأولى التي رأيت فيها ابني يتفاعل مع نموذج كبير لتعلم اللغة. كان عمره خمس سنوات فقط في ذلك الوقت، لكنه كان قادراً على إجراء محادثة طبيعية بانسيابية مع الذكاء الاصطناعي كأنه شخص حقيقي. غلبتني مشاعري وأنا أشاهده يتعامل مع هذه التكنولوجيا. لقد كان تذكيراً قوياً لي بمدى تقدمنا في مجال الذكاء الاصطناعي، وجعلني أدرك الإمكانات غير المحدودة للنماذج اللغوية الكبيرة هذه لإحداث ثورة في الطريقة التي نتفاعل بها مع التكنولوجيا.
في الواقع، كُتبت الفقرة أعلاه بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي. ولكن بصرف النظر عن التفاؤل الجامح، فقد كان من الممكن أن أكون أنا من كتبتُها أيضاً. إذا كنتم قد مررتم بتجربة مخيبة للآمال كما هي الحال في كثير من الأحيان لدى التفاعل مع بوتات محادثة خدمة العملاء Customer-service chatbots، فقد تتساءلون كيف صار لدينا فجأة ذكاء اصطناعي يمكنه فهم طلب (كتابة مقدمة لهذا المقال) وتقديم مثل هذا الرد المناسب.
لفهم هذه القفزة المهمة، دعونا نُلقِ نظرة على الكيفية التي يعمل وفقها الحوار المعتمد على الآلة. تقليدياً، قامت روبوتات المحادثة بتحليل الكلمات الموجودة في الجزء الذي أدليت به واختارت إجاباتها من مجموعة محددة مسبقاً من الخيارات.
اليوم ما زالت روبوتات المحادثة الأكثر تقدماً والمتاحة تجارياً تستخدم كثيراً من الإجابات الجاهزة. على سبيل المثال إذا سألت المساعد الصوتي ألكسا Alexa عن شرابها المفضل، فمن المحتمل أن يكون شخص ما يعمل في شركة أمازون Amazon قد كتب الرد على السؤال.
على النقيض من ذلك يعتمد ChatGPT، روبوت الدردشة القائم على الذكاء الاصطناعي الذي استخدمتُه، على نموذج محول توليدي مسبق التدريب Generative Pre-Trained Transformer model (اختصاراً: نموذج GPT) وهو يمكنه توليد مخرجات محادثة خاصة به. قد لا يعطيك اسم شراب خاص به لكنه سيوصي بشراب يلقى إقبالاً. الذكاء ChatGPT هو نموذج أولي أتاحته شركة أبحاث الذكاء الاصطناعي OpenAI للجمهور في نوفمبر 2022. جنباً إلى جنب مع نماذج اللغات الكبيرة الأخرى التي يجري تطويرها لدى غوغل Google وفيسبوك Facebook وغيرهما، يعمل هذا الذكاء الاصطناعي الجديد على تغيير المشهد تماماً.
دُرِّب نموذج تعلم اللغة الذي يعتمد عليه ChatGPT على بلايين النصوص من الإنترنت. بناءً على هذه البيانات يمكن للذكاء ChatGPT توقع الكلمة اللاحقة الأكثر ملاءمة في بناء نصي. هذا ليس تكتيكاً جديداً، ولكن تقنية ’المحوّل’ Transformer التي يستخدمها تحاول أيضاً فهمَ السياق من خلال تحليل جمل كاملة والعلاقات فيما بينها.
هذا هائل، لأن بوتات المحادثة التجارية عانت صعوبة في ملاءمة السياق. خذ مثلاً المساعد الصوتي سيري Siri من أبلApple الذي احتل عناوين الصحف قبل سنوات عندما عرض تسمية المستخدم ’سيارة إسعاف‘ عندما قيل له: «من فضلك اتصل بسيارة إسعاف». إنه أحد الأسباب التي تجعلنا معتادين جداً أن تقول روبوتات المحادثة إنها لا تفهم سؤالنا، أو أن تقدم ردوداً صحيحة لكنها غير مفيدة عملياً.
عندما طلب زوجي من الذكاء ChatGPT كتابة «عرض زواج» Marriage proposal لي بأسلوب عنوان رئيس من صحيفة ذا أونيون The Onion الأمريكية الساخرة، عاد بهذا النص: «باحثة الروبوتات عديمة المشاعر كيْت دارلينغ تتزوج من خطيب بشري ميئوس منه في محاولة عقيمة للتواصل العاطفي». أعتقد أنه يصح أن نقول إنه لم يضطلع أحد في شركة OpenAI بصياغة هذه الإجابة، وإن مدى فهم الأداة للمهمة مذهل.
«بينما تتضافر كل هذه الأشياء معاً، فإنها تُبشر بحقبة جديدة من الذكاء الاصطناعي التحادثي»
جانب آخر رائد في تقنية المحوّل هو أنها تقلل كثيراً من الوقت اللازم لإنشاء النموذج. من ثمّ تتوافر لشركات التكنولوجيا اليوم إمكانية الوصول إلى كميات هائلة من بيانات التدريب، وقوة حوسبة أكبر من أي وقت مضى، كما إنها قادرة على بناء نموذج لغوي وتدريبه بجهد أقل بكثير من قبل. بينما تتضافر كل هذه الأشياء معاً، فإنها تبشر بحقبة جديدة من الذكاء الاصطناعي التحادثي.
هناك بعض العيوب التي قد تمنع برامج الدردشة التجارية من إضافة كثير من المحتوى التوليدي، على الأقل في الوقت الحالي. يمكن للذكاء ChatGPT أن يتجادل معك، وأن يكتب قصائد، وأن يخط رسالة ساخرة بالبريد الإلكتروني إلى مسؤولك في العمل، ولكنه سيقدم أيضاً إجابات كاذبة بكل ثقة، أو يكتب أغنية راب عن العلماء متحيزة جنسياً:
«إذا رأيت امرأة ترتدي معطف المختبر، فمن المحتمل أنها موجودة فقط لتنظيف الأرضية، ولكن إذا رأيت رجلاً يرتدي معطف المختبر، فالأرجح أنه يتحلى بالمعرفة والمهارات التي تبحث عنها».
من الواضح أن مثل هذا السحر يأتي مصحوباً ببعض المخاطر. أضافت شركة OpenAI بعض التحسينات إلى نموذج ChatGPT. على سبيل المثال ساعد البشر على تدريب الذكاء الاصطناعي من خلال إعطائه ملاحظات حول مهارات المحادثة لديه، كما أنه يحتوي على بعض الإجابات المكتوبة مسبقاً وبعض الردود اللطيفة أو الساخرة. ولكن ما زال من المستحيل توقع ما قد يقوله برنامج الدردشة الآلي في كل موقف، مما يجعله يطرح مخاطر يتمكن أن تنشأ عنها إشكالات من حيث المسؤولية القانونية بالنسبة إلى عديد من التطبيقات، ويثير عدداً كبيراً من المشكلات الأخلاقية.
كما كتب ChatGPT في البداية، لقد قطعنا بالفعل شوطاً بعيداً في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد تعني هذه التطورات «الإمكانات غير المحدودة لنماذج اللغات الكبيرة هذه لإحداث ثورة في طريقة تفاعلنا مع التكنولوجيا». لكننا في حاجة إلى الاستمرار في الحوار مع تكشُّف ما سيبدو عليه ذاك المستقبل.
د. كيْت دارلينغ
(_@grok)
كيْت باحثة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، حيث تجري أبحاثاً حول التكنولوجيا والمجتمع، وتدرس التفاعل بين الإنسان والروبوت. صدر لها كتاب بعنوان السلالة الجديدة The New Breed (منشورات: Penguin).
تعليق واحد