أسرع من الصوت
كانت الكونكورد تقطع المسافة بين لندن ونيويورك في ثلاث ساعات ونصف الساعة، بسرعة تزيد تقريباً على ضعفي سرعة الصوت، مخلفة وراءها هديراً يُصم الآذان. سببت الضوضاء تقييد الأجواء التي أمكنها أن تحلق فيها، ولكن ناسا تأمل حالياً أن تتمكن من إحياء السفر بسرعة أكبر من سرعة الصوت، مع رحلة فوق صوتية هادئة.
ربما اشتُهرت ناسا NASA بمركباتها الفضائية، لكن وكالة الفضاء الأمريكية لديها أيضاً أسطول كبير جداً من الطائرات من بينها طائرات إكس التجريبية X-planes، وهو ما يرمز إليه الحرف ‘X’. بدأت الوكالة بتصميم هذه الطائرات في العام 1946 مع X-1 التي كانت أول طائرة تطير أسرع من الصوت. بعد مرور ثلاثة أرباع قرن على ذلك، ها هي حالياً تتطلع من خلال طائرتها الجديدة X-59 أيضاً إلى كسر حاجز الصوت Sound barrier، ولكنها هذه المرة ستفعل ذلك بهدوء.
لقد شكلت سرعة الصوت على الدوام عقبة بالنسبة إلى مصممي الطائرات. ويكمن السبب في طبيعة الصوت نفسها. فعندما يحرك أي شيء الهواء من تصفيق باليدين إلى عبور صاروخ، يُحدث تغييرات في الضغط تنتشر مثل موجة. تعتمد سرعة هذه الموجة على خصائص الهواء، لكنها في الظروف العادية تبلغ نحو 1,200 كم/ساعة.
يوضح بيتر كويْن Peter Coen من مركز لانغلي للأبحاث Langley Research Center التابع لناسا: “كل الطائرات تغيِّر الضغط في الهواء من حولها في أثناء طيرانها”. وتعتمد عواقب ذلك على ما إذا كانت الطائرة تحلق بنحو أبطأ أو أسرع من الصوت الذي تصدره. يتابع كوين: “في الطائرات النموذجية التي تقل سرعتها عن سرعة الصوت، تكون تغيُّرات الضغط تدريجية، [لذلك] تشعر جزيئات الهواء التي تسبق الطائرة بتغير الضغط قبل أن تصل إليها الطائرة… ولكن إذا كانت الطائرة تطير أسرع من الصوت، فإن الجزيئات الواقعة بعدها لا تعرف أنها مقبلة”.
”إذا كانت الطائرة تطير أسرع من الصوت، فإن الجزيئات الواقعة بعدها لا تعرف أنها مقبلة“
من منظور تلك الجزيئات، تصل معظم الموجات الصوتية التي تدفعها الطائرة أمامها في وقت واحد. يقول كويْن: “تحدث تغيُّرات الضغط على الفور فيما يُسمى بموجة الصدم Shock wave. موجة الصدم، من مقدمة الطائرة على سبيل المثال، تنتقل باتجاه الخارج في معظم الاتجاهات وتندمج مع الصدمات الأخرى، من الأجنحة أو نافذة قمرة القيادة… والنتيجة هي موجتا صدم كبيرتان مختلفتان نسمعهما على الأرض وتصلاننا على شكل دَويَّي اختراق حاجز الصوت”.
على الرغم من أننا قد نسمع دوي اختراق حاجز الصوت برهة قصيرة فقط، فإنه يحدث فعلياً بصورةٍ مستمرةٍ ما دامت الطائرة تطير أسرع من الصوت. يسمع الناس الموجودون في نقاط مختلفة تحت مسار الرحلة في أوقات مختلفة الدويَّ الذي يفاجئهم ويخيفهم. لهذا السبب، في سبعينات القرن العشرين، فرضت الولايات المتحدة وعديد من الدول الأخرى حظراً شبه كامل على الطيران الأسرع من الصوت فوق أراضيها.
من غير المحتمَل أن يتغير هذا الوضع ما لم يُخَفَّض دوي اختراق حاجز الصوت إلى مستوى مقبول. هذا ما يعمل عليه كويْن وفريقه. فكويْن هو مدير تكامل المهمة لمشروع LowBoom Flight Demonstration التابع لناسا. وهدفهم هو وضع تصميم لطائرة أسرع من الصوت قابل للتطبيق على ألا تسبب للناس على الأرض إزعاجاً يفوق ما تسببه الطائرات العادية. لم يكن من الممكن تصور ذلك قبل 50 عاماً، ولكن التقدم في التصميم بمساعدة الحاسوب يعني أنه أصبح في متناول أيدينا حالياً. والنتيجة التي تحققت بفضل التعاون مع شركة لوكهيد مارتن هي الطائرة X-59 المركبة التجريبية المقترَحة التي يُطلق عليها اسم كويست [المسعى] QueSST (اختصاراً لعبارة: تقنية فوق صوتية هادئة Quiet Supersonic Technology).
يوضح كويْن قائلاً: “طائرة X-59 تتميز بشكل فريد، وهي مجهزة بتقنيات فوق صوتية… الأنف الطويل والنحيف والمحرك المثبت على الجزء العلوي من الطائرة ونظام الرؤية الخارجية، كلها مصممة للتحكم في قوة وموضع موجات الصدم لإنتاج صوت ألطف لمن يسمعونه على الأرض”.
والهدف ليس القضاء على موجات الصدم تماماً- وهو أمر مستحيل- ولكن تصميم الطائرة بحيث تكون موجات الصدم متباعدة على نحو متساوٍ تقريباً على طول الطائرة. “لهذا السبب، لا تندمج موجات الصدمة محدثةً دويَّ الصدمة المزدوج، بل تكون فردية فتصير أكثر خفوتاً وألطف”، كما يقول كويْن.
على الرغم من أن تصميمها يراعي في المقام الأول الاعتبارات الديناميكية، فإن الطائرة X-59 هي طائرة ذات مظهر مذهل بكل المقاييس. يشغل أنفها الحاد المدبب ما يقرب من ثلث طولها البالغ 30 متراً وخلفه قمرة القيادة ذات المقعد الفردي المصممة بعناية شديدة لتندمج في جسم الطائرة الانسيابي بحيث لا يمكن بالكاد تمييزها. في الواقع لا يحصل الطيار حتى على حاجز زجاجي أمامي، بل مجرد شاشة فيديو عالية الدقة تعرض المشهد أمامه (هذا هو نظام الرؤية الخارجية الذي أشار إليه كويْن سابقاً).
يجب أن تؤدي كل أجزاء التصميم المعدة بإتقان، وفقاً لعمليات المحاكاة، إلى تقليل الدوي الصوتي المخيف إلى “طقطقة خفيفة” Sonic thump مقبولة. لقياس قوة الأصوات المفاجئة والحادة، تستخدم وكالة ناسا مقياساً يسمى “مستوى الديسيبل المدرك” Perceived level decibels (اختصاراً: المستوى PLdB). يبلغ ارتفاع دوي اختراق حاجز الصوت التقليدي نحو 105 PLdB، في حين أن باب السيارة الذي يغلق على بعد ستة أمتار مقداره فقط 75 PLdB. هذا هو المستوى الذي تستهدفه X-59. عندما تطير بسرعة 1,400 كم/ساعة– أسرع من الصوت بنحو 1.4 ضعف- على ارتفاع التحليق النموذجي، كل ما يجب أن نسمعه على الأرض هو صوت طقطقة خفيفة ليس أعلى من الصوت الذي يُحدثه جارٌ لدى غلق باب سيارته.
“يجب أن تؤدي كل أجزاء التصميم المُعَدة بإتقان إلى” تقليل الدوي الصوتي المخيف إلى طقطقة خفيفة”
ولكن ما زال كل شيء حتى الآن مفهوماً نظرياً. ولن تعرف ناسا إلى أن تتسلم الطائرة X-59 من شركة لوكهيد مارتن في وقت مبكر من العام 2023 ما سيكون عليه أداؤها في الواقع. سيُقَّسم جدول التجربة إلى مرحلتين بدءاً بالقياسات العلمية الدقيقة في نطاقات مضمار تجارب ناسا في كاليفورنيا، تليها دراسة استجابة المجتمع في عدد قليل من المدن الأمريكية المختارة. تُعَد المرحلة الأخيرة حاسمة، لأن هناك طرقاً مختلفة يتفاعل وفقها الناس مع الأصوات التي تتجاوز المقادير القابلة للقياس مثل PLdB. يأمل كويْن وفريقه أن تكون الطقطقة التي تحدثها الطائرة X-59 مقبولة للناس، لكنهم لا يستطيعون تأكيد ذلك. يوضح كويْن: “بمجرد دخول المهمة مرحلة اختبار التحليق فوق أجواء سكنية، سنجمع هذه المدخلات من الأشخاص الموجودين بالفعل على الأرض ويسمعون الصوت الذي تحدثه الطائرة X-59 عندما تطير فوقهم”.
يُعَد قياس رد الفعل العام أمراً حاسماً، لأنه في النهاية– مقابل كل القياسات والحسابات العلمية– سيؤثر في قرار الجهات الناظمة للطيران. والهدف هو إقناعها بتعديل الحظر
”قد تشهد السنوات الأخيرة من هذا العَقد بداية حقبة ثانية عظيمة من السفر بسرعة تفوق سرعة الصوت“
الشامل على الطيران بسرعة تفوق سرعة الصوت، وإعفاء أي طائرة تُصمَّم في المستقبل لديها مزايا خفض الدوي المزعج على طراز الطائرة X-59.
إذا سار كل شيء بالطريقة التي تأمُلها ناسا، فقد تشهد السنوات الأخيرة من هذا العقد بداية حقبة ثانية عظيمة من السفر بسرعة تفوق سرعة الصوت، بعد الحقبة الأولى الفاشلة التي بدأت وانتهت مع كونكورد. شغلت طائرة كونكورد بين العامين 1976 و2003 شركتان فقط، هما الخطوط الجوية البريطانية والخطوط الجوية الفرنسية، وعنت قيود الطيران الصارمة أن الطائرة الشهيرة لم تُستخدَم إلا فوق المحيط الأطلسي. كانت كونكورد باهظة الكلفة بالطبع، لكن هذا يرجع إلى حد كبير إلى أنها كانت الأولى من نوعها. وبسبب محدودية المسارات المتاحة لها، لم يكن لدى شركات الطيران ببساطة حافز كافٍ لإجراء الأبحاث التي ربما جعلتها أكثر اقتصادية من حيث استهلاك الوقود وسعة الركاب.
لو أن مشكلة الدوي الصوتي لم تشكل عائقاً، فلربما كان الوضع حالياً مختلفاً تماماً، وكان السفر أسرع من الصوت هو القاعدة على معظم المسارات الطويلة في العالم. وحالياً هناك احتمال حقيقي أن يتحقق هذا في عالمنا، إذا ارتقت الطائرة X-59 إلى مستوى التوقعات.
إلى اليسارالصورة العلوية عبارة عن تصور للطائرة X-59 في رحلة أسرع من الصوت للمساعدة على تحديد ميزات المركبة التي تولد موجات الصدم. تشير الألوان المعروضة على الطائرة إلى الضغط على السطح (الضغط الأدنى باللون الأزرق، والضغط الأعلى باللون الأحمر). تشير الألوان الموضحة في المساحة المحيطة بالطائرة إلى سرعة تدفق الهواء (انعدام السرعة باللون الأزرق، وسرعات أعلى باللون الأحمر). بالمقارنة، في الصورة السفلية، يمكنك رؤية موجات الصدم الناتجة عن طائرتين مقاتلتين T-38 الأسرع من الصوت