أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات رئيسية

خـطـفٌ يــلـيــه غــزو واحــتـلال

تخيَّلّ البرنامج التلفزيوني الشهير آخر واحد منا The Last of Us الذي يحكي قصة نهاية العالم بسبب فطر كورديسيبس Cordyceps الذي يحول البشر إلى كائنات الزومبي. في العديد من الحشرات، لا تختلف الحياة الواقعية كثيراً عن ذلك...

فطر كورديسيبس
فطر أوفيوكورديسيبس ديبتيرجينا Ophiocordyceps dipterigena ينبت من ذبابة إندونيسية.

البروفيسور آدم هارت

عندما نفكر في الكائنات الحية وأين نجدها، فإننا نميل إلى التفكير على نطاق واسع. الكلمة التي تتبادر إلى الذهن هي ”الموطن“ أو ”الموئل“ Habitat، وتستحضر صوراً للغابات والصحارى والمحيطات والمستنقعات وعديدٍ من الأماكن المتنوعة الأخرى على الأرض حيث يمكن العثور على الحياة. بالطبع قد نفكر أيضاً على نطاق أصغر، وربما نركز على حديقتنا أو سياج محلي أو بركة صغيرة. 

إذا فكرتم بالمقياس الصحيح، فإن أي مساحة مادية يمكن أن تكون موطناً لكائن ما. أي شخص نظر من كثب إلى العث الذي يعيش على ورقة شجرة، أو حشرات قافزات الذيل Springtails التي تعيش تحت اللحاء المتحلل لشجرة ميتة، سوف تدهشه وتحيره موائل الكائنات الحية الضئيلة والعجيبة. ولكن عندما نبدأ في التفكير على نطاق صغير حقاً، عندما نحتاج إلى مجهر لنرى ما يحدث، يمكن أن يثير الموئل اهتمامنا أكثر فأكثر، لأننا إذا فكرنا في الأحجام الصغيرة جداً، فلن نجد موطناً أفضل من ذلك الذي توفره الكائنات الحية الأخرى.

يوفر العيش داخل كائنات أخرى أو عليها عديداً من المزايا، إذا تمكن المتطفل من البقاء على قيد الحياة. قد لا يكون المضيِّف مناسباً تماماً للإقامة، لكن يمكنه أن يوفر لك المأوى والموارد ووسائل الانتقال التي قد تحتاج إليها. يمكنك حتى تزويد مضيِّفك ببعض المزايا في المقابل: عديد من البكتيريا التي تعيش داخل أحشائنا، على سبيل المثال، تساعدنا على إتمام جزء من عملية الهضم. تُعرف هذه العلاقات متبادلة المنفعة بالعلاقات التبادلية أو التكافل Mutualisms، وهي شائعة جداً.

”في بعض الأحيان يمكن أن يسبب هؤلاء الركاب ضرراً. عندما يكون كائن حي ضاراً بمضيِّفه، فإننا نطلق عليه صفة طفيلي“

ولكن ليس كل كائن حي يعيش داخل كائن حي آخر أو عليه يجلب له الفوائد. في بعض الأحيان، يمكن أن يُسبب هؤلاء الركاب ضرراً. عندما يكون الكائن الحي ضاراً بمضيِّفه، فإننا نطلق عليه صفة طفيلي Parasite.

يمكن أن تكون التفاعلات بين الكائنات المُعيلة وطفيلياتها من أكثر التفاعلات روعة، وإزعاجاً في بعض الأحيان، في العالم الطبيعي بأسره. تطورت عديد من التفاعلات الأكثر غرابة، لأنه من المفيد للطفيلي أن يتحكم في مضيفه، ويجعله يتصرف بطرق غريبة تفيد الطفيلي. في بعض الحالات يمكن للطفيليات أن تستولي على مضيفها تماماً.

تكشف الصور في هذه المقالة الآثار القاتمة لما بعد عمليات الاستيلاء الناجحة من الطفيليات على مضيفها. لقد حوَّلت بعض الكائنات مضيفاتها إلى حالة ”الزومبي“، في حين تواجه مضيفاتٌ أخرى مصيراً أسرع وأبسط عندما تستحوذ غزاتها الغريبة عليها تماماً.

فطور غازية
تتعرض الحشرات والعناكب واللافقاريات الأخرى لهجمات مجموعة كاملة من الطفيليات. الكائنات التي ترونها تنمو من أجساد الكائنات الحية التعيسة هنا هي فطريات طفيلية. في جميع الحالات يصيب الفطر جسم العائل ثم يستولي عليه.

المراحل الأولية للعدوى واضحة ومباشرة. تكون أبواغ Spores الفطريات الأم صغيرة، ويمكن أن تنتقل بسهولة عبر الهواء أو على الأسطح. الحشرات تجيد تنظيف جسدها والاعتناء به، وفي حالة الحشرات الاجتماعية، مثل النمل، فإنها تعتني بعضها ببعض. لدى عديد من الحشرات ما يشبه أجهزة خاصة متكيفة على أرجلها أو أجزاء من فمها تزيد من فعالية تنظيف أنفسها وتمكنها من إزالة الأبواغ وغيرها من الأشياء غير المرغوب فيها لمنع العدوى. ولكن بغض النظر عن مدى إتقان الحشرات الاعتناءَ بنظافتها، فإنها لا بد أن تغفل في بعض الأحيان عن شيء ما.

يمكن أن تبدأ الأبواغ الفطرية التي تبقى بعد عملية التنظيف في النمو أو الإنبات على سطح الحشرة. يتمثل التحدي الأول الذي يواجه الفطريات في إيجاد طريقة للحفر في مادة الكيتين القاسية التي تشكل الهيكل الخارجي للحشرة. لكي تفعل ذلك تشكل البوغ هيكلاً لزجاً ”ثابتاً“ يربطها بقوة بمضيفها، ويوفر لها منصة حفر مستقرة. بمجرد أن يثبت الفطر هذا الهيكل في مكانه، ينتج مزيجاً من الإنزيمات التي تسمح للخيوط الفطرية النامية الملتوية وتُسمى هايفي (الخيطان الفطرية) Hyphae بشق طريقها عبر الهيكل الخارجي إلى بيئة غنية بالمغذيات في أحشاء الحشرة.

”بمجرد اختراق الهيكل الخارجي يمكن للفطر أن يتغذى بالهياكل الحية للمضيِّف“

بمجرد اختراق الهيكل الخارجي يمكن للفطر أن يتغذى بالهياكل الحية للمضيف. يمكن أن تنمو الفطريات بسرعة وعندما يصير الطفيلي الغازي كبيراً بدرجة كافية، يحدث شيئان.

 الأول هو أن الحشرة تموت: إذ لا توفر الحشرات سوى القليل من الكتلة الحيوية التي يمكن تحويلها إلى كتلة حيوية فطرية قبل أن تموت الحشرة. الشيء الثاني الذي يحدث هو أن الفطر يتكاثر. الهياكل التي ترونها تخرج من أجساد الحشرات والعناكب في الصور هنا هي أجساد ثمار الفطريات الغازية. على غرار الفطر تنتج هذه الهياكل الأبواغ التي ستنتقل لإصابة العائل التالي المستقبلي.

الكائنات الحية
فطر كورديسيبس يخطف عنكبوتاً في الإكوادور؛ نملة في فيتنام مصابة بـفطر ستيلبيلا بوكويتي Stilbella buquetii، أو الفطر الخيشومي؛ عنكبوت يستولي عليه فطر توروبيلا Torrubiella، وهو نوع آخر من فطر كورديسيبس.

فطر كورديسيبسنشر الأبواغ

لقد حبذ الانتخاب (الانتقاء) الطبيعي Natural selection الفطريات الأكثر قدرة على إصابة الجيل اللاحق من المُعيلين. وإحدى الطرق لفعل ذلك هي إنتاج كثير من الأبواغ. ومع ذلك هناك حدّ لعدد الأبواغ التي يمكن إنتاجها، لأن الفطريات لديها فقط من العناصر الغذائية ما حصلت عليه من مضيف واحد صغير جداً بوجه عام. الخيار الآخر أمامها هو إيجاد طرق لزيادة فعاليتها في نشر الأبواغ. هناك طريقة جيدة لتفعل ذلك تتمثل في رفع الأبواغ إلى مستوى يلامسه النسيم ليحملها إلى أماكن أبعد، ولكن هذا ليس بالأمر السهل على الفطر داخل حشرة مضيفة على أرض الغابة. يمكن جعل الأجسام المثمرة أطول، وهو تكيُّف يمكن رؤيته في عديد من هذه الصور، ولكن هناك حداً لذلك بسبب المفاضلة بين تكوين مزيد من الأبواغ وإنشاء هياكل أطول يمكن من خلالها نشرها.

تواجه الفطريات مشكلات أخرى أيضاً. في بعض الأحيان تكون البيئة التي تعيش فيها الحشرات غير مواتية لنمو الفطريات. أعشاش النمل، على سبيل المثال، قد لا تتمتع بدرجة الحرارة أو الرطوبة المناسبة لها. ومن ثم عليها أن تجد طريقة للانتقال إلى موقع أفضل، ربما أعلى لتتمكن من توفير الموارد وإنتاج مزيد من الأبواغ. 

بعض الفطريات، بمجرد دخولها جسم مضيِّفها، تكون قادرة على التلاعب بسلوكه لإيصاله بالضبط إلى حيث تكون الظروف مناسبة لها. هناك مجموعتان على الأقل من الفطريات التي يمكن أن تحول مضيفها إلى ”زومبي“ خاضع لسيطرتها. إنها فطور كورديسبس وأوفيوكورديسيبس Ophiocordyceps.

أُصيب يعسوب مدغشقر هذا بفطر Ophiocordyceps odonatae مما أدى إلى موته

فطر أوفيوكورديسبس
رأيت أول نملة زومبي في أثناء البحث الميداني في بنما. بمجرد أن تدربت عيناي على تمييزها، صارت مشهداً مألوفاً لأن جميع النمل المصاب كان له المظهر الغريب نفسه. كانت جميعها متشبثة بإحكام  بسيقان النبات بفكيها، وعلى مسافة قصيرة من الأرض. في معظم الحالات، لكن ليس كلها، كانت النملات قد نفقت. كانت أجسام النمل بارزة على خط أفقي على ساق النبات، وقد نمت منها سيقان الفطر وثماره البادية بوضوح للعيان. بدت مثل أعلام صغيرة، وربما تكون أفضل طريقة لوصفها هي تشبيهها بـ”رشاشات الأبواغ“، لأن الأعضاء المثمرة النابتة منها كانت تنشر الأبواغ عبر الغابة.

”تَنفَق الحشرة وتتكاثر الفطريات وتنشر الأبواغ لبدء جيل جديد“

والسبب الذي جعل النمل يتسلق النبات في سيره إلى مثواه الأخير، ويتشبث بالساق في انتظار الموت، هو أن الفطر كان قادراً على السيطرة كيميائياً على أجهزته العصبية. تعيش الأنواع المصابة من النمل عادةً في الغطاء النباتي للغابة، ولكن عندما تصاب بالعدوى تبدأ في التشنج مما يؤدي إلى سقوطها على أرض الغابة. بمجرد الوصول إلى هناك يجد المضيف ساق نبات ويبدأ في تسلقه حتى ارتفاع 25-30 سم. هنا يبلغ التحكم بالسلوك ذروته، فيجعل النملة تطبق بفكها على الساق وتتشبث به. تنفق الحشرة وتتكاثر الفطريات وتنشر الأبواغ لبدء جيل جديد.

تحت هذه الكتلة الهائلة من الفطر أوفيو كورديسيبيتاسي Ophiocordycipitaceae نرى ما كان في السابق دبوراً وافر الصحة
لا تصيب كل الطفيليات الفطرية الحشرات – بعضها يهاجم فطريات أخرى. هذا فطر سيطر عليه فطر سبينلوس فياسيجر Spinellus fusiger الذي تُعرف خيوطه الملتوية باسم ”عفن القلنسوة“ Bonnet mould

قتلة بالفطرة
هناك عديد من الأنواع الأخرى من الفطريات ”الممرِضة للحشرات“ Entomopathogenic، أي إنها تسبب مرضاً خطيراً يؤدي غالباً إلى نفوق الحشرات. أحد الأنواع الشائعة هو ميتارايزيوم Metarhizium، وهي مجموعة تتكون من أكثر من 50 نوعاً يمكنها إصابة مجموعة واسعة من الحشرات المضيفة. يمكننا الاستفادة من الكفاءة المذهلة لهذه الفطريات في مكافحة الآفات. تُستخدم بعض الأنواع Species حالياً للسيطرة على الآفات الحشرية، مما يمنحنا خياراً لتحسين المكافحة الحيوية المتعاطفة مع البيئة مقارنة باستخدام مبيدات الآفات الكيميائية.

نميل إلى تجاهل الفطريات عندما نفكر في التنوع البيولوجي، ولكن يجب علينا حقاً أن نوليها مزيداً من الاهتمام ونوليها حق قدرها. إنها ضرورية لعمل النظام الإيكولوجي، وكمحللات عضوية، فهي الواجهة بين الحياة والموت. سواء تعلق الأمر بإعادة تدوير النفايات، أو تعزيز نمو النبات، أو الحد من الآفات المحتملة، أو السيطرة على الجهاز العصبي للحشرات، هناك كثير مما يمكننا أن نتعلمه منها.


البروفيسور آدم هارت
آدم عالم حشرات من جامعة غلوسترشير University of Gloucestershire ويمكن سماعه بانتظام على BBC Radio 4. شارَك في تقديم المسلسل التلفزيوني Planet Ant and Hive Alive

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى